قضية فيها عقد باطل لجهالة المعقود عليه
الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين
( عرض وتحليل )
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونَستغفِره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهد الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فهذه واقعة من القضايا التطبيقيَّة التي وقعت في محاكمنا، أسوق هنا حاصلَها، متناولاً ما يلي:
1- الوقائع.
2- الحُكم وأسبابه.
3- تدقيق الحكم بتمييزه.
4- الأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية.
وبيان ذلك تفصيلاً على النحو التالي:
الوقائع:
تتلخَّص وقائع الدعوى في ادعاء المدَّعي بأنه تَعاقَد مع المدَّعى عليه على أن يقوم المدعى عليه ببناء دار للمدعي، وبين العمل المتعاقَد عليه وأجرته، وأن المدَّعى عليه لم يُكمِل العمل، وطلب المدعي تكليف المدعى عليه بإكمال العمل، وأجاب المدعى عليه بما حاصله: المصادقة على العَقد بينهما المشار إليه في الدعوى، وأنه نفذ العمل إلا شيئًا يسيرًا في أشياء بيَّنها، وأن المدعي لم يُسلِّمه المتبقي من أجرته، وطالب بإلزام المدعي بتسليم بقية الأجرة، وحدَّدها.
الحكم وأسبابه:
لقد فصل القاضي في هذه القضية بحكم مبيَّن الأسباب، جاء فيه:
إنه بعد دراسة القضية وتأمُّلها، وبما أن العقد اشتمل على جهالة في المُتَّفَق عليه، من ذلك: طول الخزانات؛ فقد جاء في العقد: “أنها حسب الأبعاد التي يُحدِّدها المالك”.
وهذه جهالة في عُمْق وعَرْض وطول الخزانات، والتي تختلف باختلاف الرغبات.
كما جاء في العقد: “أن المالك إذا رغب الخزان العلوي من “الفيبر جلاص”، فإنه يقوم بتوريده”.
وهذه جهالة في المعقود عليه: هل يدخل الخزان في عقد بناء الدار أو لا؟
ومن ذلك: ما ورد في الاتفاق على نوعيَّة الشبابيك ومواصفاتها.
فلم تستوف جميع أوصافها المؤثِّرة في الثمن، واكتفى عن ذلك باعتماد العيِّنة من المالك قبل التركيب، وهذه جهالة في المتفق عليه.
وبما أنه قد حصل خلاف بين الطرفين في (التمتير) أهو للجدران بالنسبة للمباني المُغلَقة حسَب دفْع المدَّعى عليه، أم أنه للمسطحات حسَب دعوى المدَّعي؟ والعبارة الواردة في العقد فيما يتعلَّق بذلك هي: “سعر المتر المربع لجميع المباني المُغلَقة – حتى قال: هو ستمائة وخمسة وعشرون ريالاً”، وهي عبارة مُجمَلة، مُحتمِلة التأويل، غير حاسمة الدَّلالة بالنسبة لما يدَّعيه كلُّ واحد من الطرفين في السعر – أي: فهي متساوية الدَّلالة من غير مرجِّح.
فإذا نظرنا إلى العُرْف، فإذا هو بجانب تفسير المدعي حسَب اعتراف المدعى عليه نفسه، فقد ذكر أن العُرْف الغالب أن (التمتير) للمسطحات، وإذا نظرنا إلى السعر والفارق الكبير فيه، فقد قدَّرته الهيئة – أي: أهل الخبرة – بمبلغ ثمانمائة وخمسين ريالاً للمتر المسطح – أي: بزيادة حوالي الثلث عن السعر المُتَّفَق عليه والمشار إليه في العَقد – إذا نظرنا إلى ذلك، فإذا هو بجانب تفسير المدعى عليه.
واختلاف المترافعين في العمل الذي يمتر، وعدم قيام ما يُرجِّح أحد التفسيرين – يَحمِل على التوقف في ترجيح أحدهما على الآخر، ويجعل سعرَ العَقد مجهولاً[1]، وبما أن جهالة أطوال الخزانات ومواصفات النوافذ تُصيِّر العَقد مجهولاً، ويكون باطلاً، ولا تترتَّب عليه آثاره من الإلزام بإكمال العمل ونحوه، قال ابن رجب (ت: 795هـ) – رحمه الله – في القاعدة السادسة والأربعين في العقود الفاسدة: هل هي مُنعقِدة أو لا؟ قال: “ما لا يترتَّب عليه ذلك [أي: ما لا يترتَّب عليه حُكم مبنيٌّ على التغليب والسراية والنفوذ كالنكاح والبيع والإجارة]، فالمعروف من المذهب: أنه غير مُنعقِد، ويترتَّب عليه أحكام الغَصْب”.
أما قرار المكتب الهندسي، فلا يُعمِل به؛ لأن المهندس بنى قرارَه على تفسير السعر بنفسه، وقد مرَّ ما في هذا التفسير من احتمالات تجعله غير مستقرٍّ، ثم إن العقد باطل، ويحتاج نظرًا قضائيًّا، ولا يكفي فيه قرار مهندس لا عِلْم له بصحة العقود من بطلانها.
لذلك؛ فقد أفهمت طرفَي النزاع بأن اتفاقهما على بناء الدار مُوضِع النزاع باطلٌ غير مُنعقِد، ولا تترتَّب عليه آثاره من المطالبة بإكمال العمل، وبذلك قضيتُ، وإذا كان لأحدهما على الآخر دعوى محاسبة للمنقذ من العمل، فهو عليها، وبإعلان الحُكم على الطرفين قرَّر المدعى عليه الاقتناع به، أما المدعي، فقد قرَّر عدم الاقتناع به وطالب بتمييزه.
تدقيق الحكم بتمييزه:
بدراسة الحكم واللائحة الاعتراضية من قِبَل محكمة التمييز، جرتْ الموافقة عليه.
الأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية:
مما تقرَّر في هذه الواقعة ما يلي:
1- هذه الواقعة مثال للمُجمَل[2] بالقوة من الوقائع، وهو أنه قد تكون الدَّلالة ظاهرة في شيء ولكن عارَضتها دَلالة أخرى، جعلتها مجملة لتساوي الدَّلالتين من غير ترجيح، فإن اختلاف الخَصمين فيما يُحتَسب من الأمتار أهو المسطحات حسَب العُرْف – وهذا هو الظاهر عند الإطلاق – أم هو المباني المُغلَقة حسَب دفْع المدعى عليه؟ والذي قواه: الفارق الكبير في السعر، فعارَض دَلالة العُرْف، ولم يوجد ما يُرجِّح أحدهما، ونَصُّ العقد يَحتمِلهما، فكان مجملاً.
2- توصيف العَقْد بالبطلان، وإظهار هذا التوصيف، وأن مرجعه إلى القاضي لا إلى الخصوم.
3- أن الواقعة إذا كانت مجملة، وتَعذَّر تفسيرها، فتُحمَل على الجهالة؛ لأن من المقرَّر في قواعد تفسير الوقائع المجملة: أن المجمل يجب التوقف في تفسيره، وما لم يَقُم دليل يُفسِّره، فإنه يُهمَل[3].
4- أن العقد الباطل لا يَنعقِد؛ ولذلك لا يحتاج من الحاكم إلى الحكم ببطلانه، بل يكتفي بإعلام أو إفهام الطرفين بأنه لم يَنعقِد[4]، ويقضي القاضي بذلك، كأن يقول بعد تسبيب الحكم: “لذا فقد أفهمتُ طرفَي النزاع بأن العقد باطلٌ لم يَنعقِد، وبذلك قضيتُ”، ولا يَصِح أن يقول: “حكمتُ ببطلان العقد”؛ لأن الباطل لا يحتاج إلى إبطال؛ إذ إنه لم يَنعقِد.
5- أن للقاضي ردَّ قرارِ الخبرة بتسبيب يُقرِّره، كما في هذه الواقعة؛ فقد جرى ردُّ قرار المهندس وتبيين السبب.
قال الله تعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]، ففي هذه الآية جعل الله قَبُول الشهود أو ردهم إلى القاضي، فدلَّ على أنه إذا كان ثَمَّ مُوجِب لردِّ شهادتهم، فإنها تُرَد ويُبيّن السبب، يقول ابن العربي (ت: 543هـ) – تعليقًا على هذه الآية – بأنها: “دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم”[5].
وإذا حصل ذلك في الشهادة، فهو جارٍ على كافة طُرق الحكم والإثبات.
وبعد، فهذا عرْض لهذا الواقعة، مُبيَّنٌ فيه حاصل أحداثها، والحكم، وأسبابه، وتدقيقه، والأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية، حسَب الجُهد والطاقة، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بيان بالمصادر والمراجع المحال إليها في هذه الواقعة:
1- أحكام القرآن؛ أبو بكر محمد بن عبدالله، المعروف بـ (ابن العربي) (ت: 543هـ)، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ.
2- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان: زين الدين[6] بن إبراهيم بن نجيم (ت: 970هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1413هـ.
3- شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا = فتح الرؤوف القادر: عبدالرؤوف بن علي زين الدين المناوي القاهري (ت: 1031هـ)، تحقيق: عبدالرحمن عبدالله عوض بكير، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الأولى 1406هـ.
4- شرح الكوكب المنير؛ محمد بن أحمد الفتوحي، المعروف بـ (ابن النجار) (ت: 971هـ)، تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، طباعة مركز البحث العلمي والتراث الإسلامي بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية.
5- شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت: 1051هـ)، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
6- القاعدة الكلية (إعمال الكلام أولى من إهماله) وأثرها في الأصول؛ محمود مصطفى عبود هرموش (معاصر)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ.
7- القواعد في الفقه الإسلامي؛ أبو الفرج عبدالرحمن بن رجب الحنبلي (ت: 795هـ)، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
8- كشاف القناع عن متن الإقناع؛ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت: 1051هـ)، مراجعة: هلال مصيلحي مصطفى هلال، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
9- المدخل الفقهي العام؛ مصطفى أحمد الزرقاء (ت: 1420هـ)، مطابع ألف باء بـ(الأديب)، دمشق، الطبعة التاسعة 1967م – 1968م.
10- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة؛ محمد بن حسين بن حسن الجيزاني (معاصر)، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الدمام، جدة، الأحساء، الرياض، الطبعة الأولى 1416هـ.