قضايا وأحكام: قضية فيها المطالبة بأجرة ترميم بناء والدفع بالشرط الجزائي
الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونَستغفِره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه واقعة من القضايا التطبيقيَّة التي وقَعتْ في محاكمنا، أسوق هنا حاصلها، متناولاً ما يلي:
1- الوقائع.
2- طُرق الحُكم والإثبات في هذه القضية.
3- الحكم وأسبابه.
4- تدقيق الحكم بتمييزه.
5- الأحكام والضوابط المقررة في هذه القضية.
وبيان ذلك تفصيلاً على النحو التالي:
الوقائع:
تتلخَّص الوقائع في مطالبة المدَّعِي المدعَى عليه بتسليمه بقيةَ أجرة عملِه على تنفيذ ترميم دار للمُدَّعى عليه اتخذها مستوصفًا خاصًّا.
وقد أجاب المدعى عليه بالمصادقة على العَقد بترميم المبنى، ودفَع بأن بالعمل نواقصَ وملحوظات، كما أن المدَّعي قد تأخَّر في تنفيذ العمل، وعليه غرامة الشرط الجزائي، وأجرة الدار المستأجرة بدلاً عن الدار/المستوصف، وزيادة أجرة المهندس المُشرِف، وزيادة سعر جهاز الأشعة، وطالب باستنزال ما يجب لهذه الأشياء من ضمان من الأجرة، وبذلك يكون المدعي مدينًا للمُدَّعى عليه.
وادعى كلُّ واحد من الطرفين بأن السبب في التأخير حاصل من الطرف الآخر.
طرق الحُكم والإثبات في هذه القضية:
لما كانت دفوع الطرفين في سبب التأخير تدور على تأخير تسديد استحقاق المدعي وأسبابه الفنية، رأى القاضي الكتابة إلى لجنة من مهندسي المحكمة لتطبيق العَقد، وتقرير ما يَرونه بصدد سبب التأخير.
وتلقَّى القاضي إجابتَهم، وحاصلها: أن اللجنة اطلعت على العَقد المُبرَم بين الطرفين، وعلى الصورة المتضمِّنة لادعاء الطرفين، ودفوعهما لدى القاضي، ومستنداتهما، وتَبيَّن لها فيما يتعلَّق بالتأخير في العمل ما يلي:
أ- تَمَّ تعميد المقاول بأعمال أخرى زيادة على العقد الأساس.
ب- قام المالك نفسه بأعمال ترميمات نفَّذها مقاول آخر، وهذه الأعمال خارج بنود الاتفاقية.
جـ- هنالك مواد تَمَّ شراؤها بواسطة المالك ليقوم المقاول بتنفيذها.
د- تَمَّ تعميد المقاول بعقد خاص لغرفة الأشعة، والتي سوف يقوم بتركيب أجهزتها مؤسسة – وهي مؤسسة لا علاقة لها بالمدعي – والتي طلبت من المقاول جدولة الأعمال، وكان طلبها متأخرًا عن التعميد بمدة شهرين.
هـ- هنالك تأخير في تسليم الدفعات – الأقساط الحالة من الأجرة – إلى المقاول عن موعدها.
بناء على ما تَمَّ ذكره، فإن اللجنة ترى أن التأخير الذي يدَّعي به المالك سببه الطرفان – المقاول المدعي، والمالك المُدَّعى عليه – وتَرجُح نسبة المقاول في التأخير 60%، والمالك 40%.
ز- ترى اللجنة في هذه الحال وبناءً على ما اطَّلعتْ عليه من مسببات لكل طرف – أن تُطبِّق على المقاول غرامة التأخير المنصوص عليها في وزارة الأشغال العامة والإسكان، والتي أقصاها 10% من جملة استحقاق المقاول، وعليه؛ فإن نسبة المقاول من غرامة التأخير تساوي 60% من إجمالي غرامة التأخير. اهـ.
وبعد تدوين هذا القرار، جرتْ تِلاوته على الطرفين، وقد وافَق المقاول المدعي على هذا القرار، وعارَض عليه المالك المدَّعى عليه متمسكًا بكامل طلباته في الغرامات المذكورة.
الحكم وأسبابه:
لقد فصل القاضي في هذه القضية بحكم مبيَّنٍ الأسباب، جاء فيه:
وبعد دراسة القضية وتأمُّلها، وبناء على مصادقة الطرفين على إجمالي الاستحقاق والمستنزل بسبب الملحوظات والنواقص على العمل، وأن الباقي بعد ذلك هو مبلغ يستنزل منه نسبة ستين في المائة من عشرة في المائة من إجمالي الاستحقاق المذكور مقابل غرامة الشرط الجزائي حسب قرار اللجنة آنف الذِّكر، وقد بلغ ذلك… وباستنزالها من المتبقي للمدَّعي يكون استحقاق المدعي الواجب دفعه مبلغ… وبما أن الشرط الجزائي مُعتدٌّ به بحسب ما يُقرِّره أهل الخبرة، وقد قرروا بأن المدعيَ مدان بنسبة ستين في المائة منه، كما أن المدَّعى عليه مدان بنسبة أربعين بالمائة منه، كما قرَّرت اللجنة بأن المستنزل لهذا الشرط يكون بنسبة عشرة بالمائة، وقد رضيها المقاول المدعي، وعارَض عليها المالك المدَّعى عليه، ولا وجه لمعارضته؛ لأن الاستنزال يكون حسب ما يُقرِّره أهل الخبرة، لا حسَب المتَّفَق عليه.
كما أنه لا وجه لما طلَبه المدعى عليه من: أجرة المبنى المستأجر، ومن قيمة الأشعة، وأجرة المهندس المُشرِف؛ لأن هذه الأمور اشتُرِطت لإزالة ضرر التأخير، فهي من ضمن الشرط الجزائي، فاشتراط الشرط الجزائي مُغنٍ عنها؛ لأن هذا الشرط جُعِل لإزالة ضرر التأخير، فتكون متداخِلة معه، وقد سبق الاعتداد بالشرط الجزائي واستنزال ما تَقرَّر له.
لذا فقد ألزمت المدَّعى عليه بتسليم مبلغ … للمدعي، وصرفت النظر عما يُطالِب به المدعى عليه من زيادة في الشرط الجزائي، وما أُلحِق به من أجرة المستوصف، وفرْق أجرة المهندس المشرف، وفرْق سعر جهاز الأشعة، والمبلغ الذي يُطالِب به في دفعه للدعوى؛ لأنه لا يَستحِق شيئًا من ذلك، وبذلك قضيت.
تدقيق الحكم بتمييزه:
بدراسة الحُكم مع اللائحة الاعتراضية من قِبَل محكمة التمييز قرَّرت موافقتها عليه.
الأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية:
مما تَقرَّر في هذه الواقعة من ذلك ما يلي:
1- توصيف هذه الواقعة بأنها من قبيل الشرط الجزائي.
2- الاعتداد بالشرط الجزائي صحةً ولزومًا؛ استنادًا إلى أصل صحة الشروط الجعلية ولزومها التي يَشتَرِطها المتعاملان أو أحدهما مما له فيه منفعة أو دفْع ضرر، ما لم تُخالِف أصلاً شرعيًّا، وهذا قضاء شريح[1]، واختيار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية[2]، والجمهور على خلافه، وعدُّوه وعدًا لا يَلزَم الوفاء به[3]، والعملُ على الأول بضوابط شرعية[4].
3- أن تقدير الشرط الجزائي يكون حسَب العُرْف لا حسب المشروط.
4- أن العُرف الجاري عند إصدار الحكم في الرياض: ألا يَزيد الشرط الجزائي على عشرة في المائة من مجموع الاستحقاق.
5- إذا كان التأخير من طرفي العَقد، فتتجزَّأ غرامة التأخير عليهما بحسب اشتراك كل واحد منهما في التأخير، فكل واحد من الطرفين يتحمَّل جزءًا منه[5]، ويُرجَع في تقرير مقدار الضمان عند الاشتراك إلى أهل الخبرة.
6- أن الشرط الجزائي يتداخل، فمهما تَعدَّدت الشروط الجزائية، والتي يكون الغرض منها حثَّ المُتعاقِد على سرعة التنفيذ، وضمان ما فات على المُشتَرِط بسبب التأخير، فهي واحدة، وجزاؤها واحد فقط لا يتعدَّد[6].
7- استعانة القاضي بالخبراء في بيان المتسبِّب في تأخير تنفيذ العمل عند الاختلاف فيه بين المتداعيين في الشرط الجزائي، إذا كان ذلك مما يُدرَك بالخبرة كهذه الواقعة؛ لأن ذلك من قبيل دليل وقوع معرفات الحكم[7]، الذي يُدرِكه الخبراء، بل قد يَختصُّون بإداركه دون القاضي[8]، وقد ذكر الفقهاء أن الراعي لو فعل فعلاً وصادق ربَّ الماشية على وقوعه، واختلفا في كونه تعدِّيًا، رُجِع في تقرير كونه تعديًا إلى أهل الخبرة؛ لأنهم أدرى بذلك وأعلم[9]، كما ذكروا: أنه لو تَصادَق المستأجر والمؤجِّر على وجود صفة في العين المستأجرة، واختلفا في كونها عيبًا، فإنه يُرجِع في ذلك إلى أهل الخبرة[10].
وبعد، فهذا عرْض لهذه الواقعة، مبينٌ فيه حاصل أحداثها، وطُرُق الإثبات فيها، والحكم، وأسبابه، وتدقيقه، والأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية، حسَب الجُهْد والطاقة، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بيان بالمصادر والمراجع المحال إليها في هذه الواقعة:
1- أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية؛ نشْر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلميَّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، الطبعة الأولى 1409هـ.
2- أخبار القضاة؛ محمد بن خلف بن حيان، المعروف بـ (وكيع) ت: 306هـ، عالم الكتب، بيروت.
3- إعلام الموقعين عن رب العالمين؛ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر، المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) ت: 751هـ، راجعه: طه عبدالرؤوف، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، لبنان.
4- بدائع الفوائد؛ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر، المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) ت: 751هـ، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان.
5- الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارَن؛ عوض أحمد إدريس، معاصر، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان.
6- شرح المنتهى = شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى؛ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي ت: 1051هـ، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
7- صحيح البخاري؛ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري ت: 256هـ، مطبوع مع “فتح الباري”، ترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي، إشراف: محب الدين الخطيب، تعليق: الشيخ عبدالعزيز بن باز، المكتبة السلفيَّة.
8- عمدة القاري شرح صحيح البخاري؛ بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى، المعروف بـ “البدر العيني” ت: 855هـ، دار الفكر، بيروت.
9- فتح الباري بشرح صحيح البخاري؛ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت: 852هـ، إشراف: محب الدين الخطيب، تعليق: الشيخ عبدالعزيز بن باز.
10- القواعد في الفقه الإسلامي؛ أبو الفرج عبدالرحمن بن رجب الحنبلي ت: 795هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
11- كشاف القناع عن متن الإقناع؛ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي ت: 1051هـ، مراجعة: هلال مصيلحي مصطفى هلال، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
12- مجلة البحوث الفقهية المعاصرة؛ مجلة علمية محكمة متخصِّصة في الفقه الإسلامي، تَصدُر في الرياض بالمملكة العربية السعودية، صاحبها ورئيس تحريرها: د. عبدالرحمن بن حسن النفيسة.
13- المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ مجد الدين أبو البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني ت: 652هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1398هـ.
أ- ألا يكون هناك عُذْر للعامل في الإخلال بالعمل.
ب- ألا يشتمل الشرط على ربا، مِثل: اشتراط غرامة على تأخير تَسلُّم أقساط أجرة العمل.
جـ- أن يكون الضمان حسَب العُرْف مراعى فيه ألا يَزيد على ما فات رب العمل.
د- ألا يكون في إعماله ضرر على العامل يَزيد على جبْر ضرر رب العمل فتجري الموازنة بينهما بما يحفظ حقَّ كل منهما.
ويُقابِل أدلَّة وقوع الأحكام أدلَّة شرعيَّتها، وهي: الكتاب، والسُّنة، والأدلة الأخرى التابعة لهما.
وقد تناولنا أدلة شرعية الأحكام وأدلة وقوعها في بحث مُحكَّم مجاز للنشر في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.