قضية زوجية
دعوى بُغْض المرأة لزوجها، وطلبها الفسخ منه
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه واقعة من القضايا التطبيقيَّة التي وقعت في محاكمنا، أسوق هنا حاصلها، متناولاً ما يلي:
1- الوقائع.
2- الإجراءات التي سلكها القاضي لحلّ النزاع.
3- الحكم وأسبابه.
4- تدقيق الحكم بتمييزه.
5- الأحكام والضوابط المقررة في هذه القضية.
وبيان ذلك تفصيلاً على النحو التالي:
الوقائع:
تتلخَّص وقائع هذه الدعوى في ادعاء المدَّعية بأن المدَّعى عليه زوجها قد تزوَّجها ودخل بها ومكثت عنده مدة، ثم خرجت من بيته، وانتقلت إلى بيت أهلها منذ سنتين وأربعة أشهر، وأنها تُبغِضه ولا تُطيق العيش معه، وتَطلُب فسْخَ نكاحها منه.
وأجاب المدعى عليه بصحة الوقائع التي ذكرتها، وأن الزوجة لا تُبغِضه، بل هي مخبَّبة عليه من قبل أهلها، ويَطلُب ردَّ دعواها والحكم عليها بالعودة معه إلى بيت الزوجية.
الإجراءات التي سلكها القاضي لحل النزاع:
لقد قام القاضي بنصح الزوجة بطاعة زوجها والعودة معه إلى بيت الزوجية، ويُحقِّق لها ما يُرضيها، إلا أنها لم تَستجِب، كما قام القاضي بنصح الزوج بمفارقتها على عِوضٍ تدفعه له، إلا أنه لم يَستجِب وأصرَّ على إمساكها وعدم مفارقتها، ثم قام القاضي استنادًا إلى قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35]، بأمر كل واحد من الزوجين باختيار حَكمٍ من أهله، وقد تَمَّ اختيار كل واحد منهما حكمًا، فاختارت الزوجة عمَّها، كما اختار الزوج عمه، وقد حضر الحكمان لدى القاضي، فذكَّرهما بالله وأن عليهما أن ينويا الإصلاح، وأن يُلطفا القولَ ويُنصِفا ويُخوِّفا ويُرغِّبا، ولا يُخصَّا بذلك أحدهما دون الآخر، وعلى الحَكَمين أن يَستطلِع كل واحد منهما رأي صاحبه الذي بعثه إن كانت رغبته في الصلح أو الفُرْقة، ويدرسا جميع الأوضاع المتعلِّقة بذلك من جميع الوجوه، فإن توصَّلا إلى الإصلاح، وإلا قرَّرا ما يَريانه من جمع أو فرقة، بعوض أو بدونه، وأتياه بالجواب، وانصرف الحكمان، ثم عادا بعد مدة وقرَّرا أنهما لم يتوصَّلا إلى رأي موحَّد، وقرَّر حَكَمُ الزوج أنه لم يظهر له من حالهما ما يُوجِب الفرقة أو الجمع بينهما، وقال حَكَم الزوجة: أرى أن يُفرَّق بينهما، وقد حضر الخَصمان وجرى إفهامهما بما قرَّره الحكمان، وأن عليهما اختيار حكمين آخرين فاستعد الزوج بذلك، وقالت الزوجة: لقد اخترت حكمًا إلا أنه رفض المشاركة في التحكيم، وأطلب إنهاء القضية، وقرَّرت استعدادها لإعادة المهر وما يتْبعه من حُلي، وصادقها المدعى عليه على مقداره، ثم جرى إعادة نُصْح الزوجة بطاعة زوجها، فرفضت الاستجابة، كما أبى الزوجُ مفارقتَها، كما جرت محاولة الصلح بينهما، فلم يحصل تجاوب منهما، وتمسَّك كل واحد منهما بطلباته.
الحكم وأسبابه:
الأسباب:
لقد جاء في أسباب الحكم: وبدراسة القضية وتأمُّلها، ولأن الزوج قد صادق على ترْك الزوجة بيته ونشوزها عليه مدة تَزيد على العامين، وأنه خلال هذه المدة قد خاصمها مطالبًا إياها بالرجوع فامتنعت، وأنه خلال هذه المدة ما زال يُطالِبها بالرجوع تارة برسول يُرسِله، وتارة بنفسه، ورَغم ذلك لا زالت مصرَّة على نشوزها، وقد أمر الله بالإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان في قوله تعالى: ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229]، وقد تعذَّر الإمساك بالمعروف بنشوزها عن طاعته هذه المدة الطويلة، وبما أن بقاءها هذه المدة الطويلة ناشزًا ضررٌ عليها، وقد نهى الله عن إمساك النساء ضرارًا، وعده من الاعتداء فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرر والضِّرار، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضررَ ولا ضِرار))[1]، قال الإمام النووي – رحمه الله -: “حديث حسَن، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مُسنَدًا، وله طُرق يقوي بعضها بعضًا”[2]، ولأن الخُلْع مشروع عند عدم الوئام بين الزوجين وخَشية الضرر؛ لعموم الحديث السابق، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما أَنقِم على ثابت في دِين ولا خُلُق، إلا أني أخاف الكفرَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فتردين عليه حديقتَه؟))، فقالت: نعم، فردت عليه، فأمره ففارَقها”[3]؛ رواه البخاري، كما أن بقاءها ناشزًا مع طول المدة أمر غير محمود شرعًا؛ لأنه يُنافي المودة والإخاء، مع ما يترتَّب على الإمساك من المضار والمفاسد، والظُّلم والإثم، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر وتوليد العداوة والبغضاء، وبما أننا بذلنا الوسائل التي ربما تعود على الطرفين بالإصلاح، ولم نتوصَّل إلى حلٍّ وبعثنا حَكمين إلا أنهما لم يتوصَّلا إلى نتيجة.
الحكم:
لقد قرَّر القاضي الحكم بقوله: بناء على ما سلف من أسباب، فقد أمرت المدعى عليه بتطليق المدعية، وتَرُد عليه ما أصدقها وما أعطاها من ذهب، فامتنع عن ذلك؛ لذا فقد فسختُ نِكاحَ المدعية من زوجها المدعى عليه، وعليها أن تَرُد عليه ما أصدقها وما أعطاها من الذهب الذي تصادقا عليه آنفًا، وبذلك قضيتُ، وبتلاوة ذلك على الطرفين قرَّر المدعى عليه عدمَ قناعته بالحكم، وطالب بتمييزه.
تدقيق الحكم بتمييزه:
لقد صار هذا الحكم باتًّا بمصادقة محكمة التمييز بالرياض عليه.
الأحكام والضوابط المقرَّرة في هذه القضية:
مما تقرَّر في هذه الواقعة من ذلك ما يلي:
1- أن للمرأة المُبغِضة لزوجها طلبَ الفسخِ، وينظر فيه القاضي وَفْقًا للإجراءات الشرعية المقرَّرة.
2- الإجراءات المقرَّرة شرعًا لحلِّ النزاع في دعوى بُغْض المرأة لزوجها، وطلبها الفسخ منه، تبدأ بعد سماع الدعوى والإجابة بنصح الزوجة بالبقاء مع زوجها، فإذا لم تَستجِب، فيُنصَح الزوج بمفارقتها، فإذا لم يستجب، بعَث القاضي حكمين، وهذه الإجراءات مبيَّنة في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية برقم 26 والتاريخ 21/8/1394هـ[4].
3- إذا لم يتَّفِق الحَكَمان، ولم يمكن بعث غيرهما، فإن القاضي يجتهد في القضية ويُقرِّر ما يراه من جَمْع أو فُرْقة على وَفْق ظروف القضية وملابساتها مما يُعَد قرينة على بُغْض الزوجة لزوجها وكراهيتها إياه[5]، وقد ظهر للقاضي في هذه القضية رُجحان دعوى المدَّعية بطول نشوزها، فقام بفسخ نكاحها منه؛ حسَب الأصول الشرعية المذكورة في أسباب الحكم.
[1] أخرجه ابن ماجه 2: 784، كتاب الأحكام، باب مَن بنى في حقه ما يَضُر بجاره، وأخرجه أحمد 1/5، 313/ 326، والدارقطني 3: 77، كتاب البيوع، 4: 227، كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، باب في المرأة تُقتَل إذا ارتدت، والبيهقي 6: 69، كتاب الصلح، باب لا ضرر ولا ضرار، 6: 156، كتاب إحياء الموات، باب من قضى فيما بين الناس بما فيه صلاحهم ودفع الضرر عنهم على الاجتهاد، 10: 133، كتاب آداب القاضي، باب ما لا يحتمل القسمة، والحاكم 2: 66، كتاب البيوع، والطبراني في الكبير 2: 86، 11: 228، وفي الأوسط 1: 90، 307، 4: 125، 5: 238، ومالك في الموطأ موصولاً 2: 745، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، ومرسلاً 2: 804، كتاب المكاتب، باب ما لا يجوز من عِتْق المكاتب.
[2] الأربعين النووية، الحديث الثاني والثلاثون.
[3] أخرجه البخاري 5: 2022، كتاب الطلاق، باب الخُلْع وكيف الطلاق فيه، كما أخرجه بذكر بُغْض الزوج ومحبة فراقه البيهقيُّ من رواية ابن جريج عن عطاء 7: 314، كتاب الخلع والطلاق، باب الوجه الذي تَحِل به الفدية، وقال: “وكذلك رواه غندر عن ابن جريج مرسلاً مختصرًا”، وعبدالرزاق 6: 502، كتاب الطلاق، باب المفتدية بزيادة على صداقها.
[4] انظر نص هذا القرار والتعليق عليه في كتابنا: “التحكيم في الشريعة الإسلامية” ص: 363.
[5] كتابنا “التحكيم في الشريعة الإسلامية” 273، 282 – 285.