المطالبة بثمن مزرعة والدفع بصورية العقد وأنه رهن لا بيع
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن القضاء من ضرورات الاجتماع، فهو يحلُّ مع الناس أينما حلُّوا؛ وما ذلك إلا لأنه يحصل من اجتماع الإنسان مع غيره التعاملُ والتنازع؛ بسبب شبهةٍ تعرِضُ لتقيّ، أو شهوة تصدُرُ من شقيّ، فكان بالناس حاجةٌ للقضاء منذ بَدْء الخليقة حتى يومنا هذا.
والقواعد والأحكام – الموضوعية أو الإجرائية التي يُقرِّرها الفقهاء في مصنفاتهم مستمدةً من الكتاب والسنة أو أدلة التشريع الأخرى – تبقى مصوَّرة في الأذهان صورًا مثالية[1]، حتى إذا لامسَتْها الوقائعُ والنوازل القضائية، تنَزَّلت من الأذهان صورًا مثالية، إلى الأعيان والأشخاص وقائعَ حية.
وعرضُ الوقائع والنوازل القضائية السابقة مع أحكامِها على القضاة والمفتين ممَّا يُصقِلُ مواهبهم، ويُحكِم تجارِبَهم وخبراتهم، ويُكسِبُهم ملَكةً تهيِّئُهم لمعرفة تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع القضائية والفتوية، فلا يكفي لفنٍّ من الفنون التعرُّف على الأحكام النظرية له، بل لا بد من الارتياض في مباشرته وتطبيقه؛ حتى يكونَ لقاصده من ذلك مَلَكةٌ قارَّةٌ قادرةٌ على الاهتداء لأصول هذا الفن وإدراك الأحكام العارضة له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبَّه لفروقه؛ لكثرة نظره فيه، وإتقانه لأصوله ومآخده، وتردُّده في ممارسته حتى تكون مباشرتُه عنده سهلةً مُيسَّرة، وذلك من أنفسِ ما يحصله المتدرِّب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام الشرعية لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء.
وقد ذكر الفقهاء أن من آداب القاضي كونَه مطَّلعًا على أحكام مَن قبله من القضاة، بصيرًا بها؛ كي يستضيءَ بها، ويستفيد منها[2].
وقد نُقِلَت إلينا ثروةٌ من الوقائع القضائية مما استلجَّ فيه الخصوم، وتنازع وتنازل فيه المحتكِمون، كما حفِظَتْ دواوينُ المحاكم في عصرِنا الحاضر صورًا من الأحكام القضائية ووقائعها.
وقد رأيتُ عرضَ واقعة من الوقائع المعاصرة، مع بيان ما يتقرَّر فيها من الأحكام والضوابط، فإلى بيان ذلك:
عرض لأحداث هذه القضية مع الحكم فيها:
الوقائع:
تتلخَّص وقائع هذه الدعوى في ادِّعاء المُدِّعي أنه باع على المُدَّعى عليه مزرعةً، وصفها وحدها بثمنٍ قدرُه واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألف ريال (61.716000 ريال)، وأنه أفرغ هذا البيع لدى الدائرة المختصة – أي: وثَّقه له – ولكن المُدَّعى عليه لم يُسلِّم له الثمن، وهو يطلب إلزام المُدعَّى عليه بتسليم الثمن المذكور.
وقد أجاب المدعى عليه بأنه لم يشترِ المزرعة المذكورة من المدعي، وطلب ردَّ الدعوى، وأضاف في دفوعه: “إن المزرعة رهنٌ له في دَيْن على والدِ المدعي، وإنها أفرغت بيعًا صوريًّا توثيقًا لتلك الديون”.
الحكم وأسبابه:
لقد فصل القاضي في هذه الواقعة بحكم مبين الأسباب.
جاء فيه:
إنه بدراسة القضية وتأملها، وبما أن الطرفين قد تصادقَا على إفراغ المزرعة الموصوفة في الدعوى من المدعي إلى المدعى عليه، وهذا يوافق ما في الصك الصادر من كتابة عدل… برقم… وتاريخ…، وقد جاء في صك الإفراغ آنف الذكر: “إن الثمن واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألف ريال، سُلمت عدًّا ونقدًا، وأن المبيع سُلِّم لموكل المدعى عليه حتى الآن، وأن الثمن لم يُقبَض، وبما أن المدعى عليه قد دفع بصورية العقد، وأنه لم يقع بيع ولا شراء حقيقة، وأن ما حصل من إفراغ إنما هو رهن للمزرعة، وبما أن دفعَ المدعى عليه هذا يُؤيِّده تصادق الطرفين على عدم قبض الثمن المذكور مع كثرته، وهذا أمر تُبعِدُه العادة؛ إذ يبعد عادة أن يقرَّ شخص باستلام مبلغ كثير جدًّا – وهو واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألف ريال عدًّا ونقدًا – وهو لم يستلِمْه ويكون العقد حقيقة، وما أحالته العادة أو أبعدَتْه فهو مردود، يقول ابن عبدالسلام في قواعده (2/125): “القاعدة في الأخبار والدعاوى والشهادات والأقارير وغيرها: أن ما كذَّبه العقل أو جوَّزه وأحالته العادة، فهو مردود، وأما ما أبعدته العادة من غير إحالة، فله رتب في البعد والقرب قد يختلف فيها؛ فما كان أبعد وقوعًا، فهو أولى بالرد، وما كان أقرب وقوعًا، فهو أولى بالقبول، وبينهما رتب متفاوتة”.
ينضاف إلى ذلك: أن المزرعة لا زالت في يد المدعى عليه منذ الإفراغ بتاريخ 13/11/1414هـ حتى الآن في 2/2/1418هـ حسب إقرارهما، وأن للتعامل الذي دفع به المدعى عليه أصلاً، وذلك حسب ما قُدِّم من الورقتين اللتين إحداهما: معنونة باسم “محضر اتفاق تسوية حسابات الأسهم”، والأخرى فيها الخطاب الموجَّه من والد المدعي إلى المدعى عليه، وقد تضمَّن الخطاب ذكرَ رهن المزرعة موضع الدعوى للمدعى عليه، فكل ذلك قرائن مؤيدة لما دفع به المدعى عليه من أن حقيقة التعاقد رهن لا بيع، وتلجئةُ العقود يثبتُ بالقرينة كما ذكره فقهاؤنا؛ (الكشاف 3/150).
ولا يُعارِضُ هذا إفادة الغرفة التجارية، والتي قدَّمها المدعي متضمنة: أنه قد يحدث أحيانًا أن يفرغ العقار ويقر باستلام الثمن وهو لم يستلم؛ لأن ما يحدث أحيانًا لا يُعتَدُّ به، ولا يخلُّ بالقاعدة – كما سبق بيانه من كلام العز بن عبدالسلام.
كما لا يعارض ما قرَّرته من أن صك المزرعة باسم المدعي، والديون المرهونة بها مستحقة على والده، ذلك بأن للإنسان أن يرهن ماله في دَيْنٍ عليه لغيره، كما ذكره فقهاؤنا؛ (الاختيارات 133 ).
والمدَّعِي قد فعل ذلك، فقد أفرغ المزرعة لدى كاتب العدل حسب الإفراغ آنف الذكر، وكان ذلك برضاه واختياره، فهو رهنٌ منه لهذه المزرعة برضاه واختياره؛ لما أسلفت من قرينة.
كما لا يعارض ما قرَّرته من أن المُدَّعى عليه قد أقر بواسطة وكيله قبوله لهذا الإفراغ لدى كاتب العدل – كما في صك الإفراغ – لأن الإقرارَ إذا شهدت قرينة قوية بردِّه لم يُعمَل به، بُرهان ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم – واللفظ له – في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((بينَما امرأتانِ معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنِك أنت، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ايتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل – يرحمك الله – هو ابنها، فقضى بها للصغرى))[3].
قال ابن القيم في الطرق الحكمية ص6 – بعد أن ساق الخبر -:
“فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدلَّ برضا الكبرى بذلك، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسِّي بمساواة الصغرى في فقْد ولدِها، وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك، على أنها هي أمُّه، وأن الحامل لها على الامتناع ما قام بقلبِها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقوِيت هذه القرينة عندَه حتى قدَّمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها: ((هو ابنها))، وهذا هو الحق، فإن الإقرار إذا كان لعلَّةٍ اطلع عليها الحاكم، لم يلتفتْ إليه؛ ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمالٍ لوارثه؛ لانعقاد سبب التهمة، واعتمادًا على قرينة الحال في قصده تخصيصه”.
وممَّن خرج الحديث السابق أيضًا الإمام النسائي، وقد ترجَم عليه عدة تراجم، منها قوله: “الحكم بخلاف ما يعتَرِفُ به المحكوم له إذا تبيَّن للحاكم أن الحق في غير ما اعترف به”[4].
قال ابن القيم معلقًا على ذلك – كما في الطرق ص6 -: “فهكذا يكون الفهمُ عن الله ورسولِه”.
كما علق ابن القيم على هذه الترجمة في إعلام الموقعين (4/371): “وهذا هو العلم استنباطًا ودليلاً”.
فبناءً على ما سلف؛ أعلمت المدَّعي بأنه لا يستحق ما ادَّعاه المدعى عليه من ثمن المزرعة الموصوفة في الدعوى، وأن حقيقة العقد بينهما رهنٌ لا بيع، وللمدَّعي على المدعى عليه اليمين الشرعية مغلَّظة في الصيغة[5] بأن حقيقة العقد بينهما في المزرعة الموصوفة في الدعوى رهنٌ وليس بيعًا، متى طلب المدعي اليمين، فأبى طلبها، وليس له إلا ذلك متى طلبها، وقد استعدَّ المدعى عليه ببذل اليمين عند طلبها منه؛ لذلك كله حكمت بصرفِ النظر عن دعوى المدعي، وأنه لا يستحق ما ادَّعاه من ثمن المزرعة المذكورة في الدعوى؛ لأن حقيقة العقد بينهما على المزرعة رهن لا بيع.
تدقيق الحكم بتمييزه:
وبدراسة هذا الحكم ولائحتِه الاعتراضية من قِبَل محكمة التمييز، صدر قرارُها بالموافقة على الحكم محمولاً على أسبابه.
الأحكام والضوابط المقررة في هذه القضية:
مما تقرَّر من الأحكام والضوابط في هذه الواقعة ما يلي:
1- أن للقاضي استنباطَ ثبوتِ الواقعة وحقيقتها والأوصاف والمعاني المؤثِّرة فيها من كلام الخصمينِ وبياناتهما، حسب طرق الاستنباط وأصوله وأوجه الدلالة المقررة، فقد استنبط القاضي – من عدم تسليم الثمن مع كثرته، والإقرار بقبضه، وكون المزرعة لا زالت في يد المدَّعى عليه منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وأن للتعامل الذي دفع به المدعى عليه أصلاً – أن البيع المقرَّ به صوريٌّ، وأن حقيقة التعامل بينهما رهن وليس بيعًا.
2- تصريح القاضي بتوصيف الواقعة عند الاقتضاء، فقد قرَّر القاضي أن حقيقة التعاقد بين المترافعين على المزرعة رهن لا بيع[6].
3- الحكم بخلاف إقرار الخصم إذا كان ثَمَّ قرينةٌ قوية تُؤيِّد الدعوى، بدليل قصة المرأتين الوارد سياقها في أسباب الحكم.
4- أن ما أبعدته العادة أو أحالته من الأقارير والشهادات ونحوها، فهو مردود كما حقَّقه العلماء، ومنهم العز بن عبدالسلام الوارد نصُّ كلامه في سياق أسباب الحكم.
5- العمل بالقرينة في إثبات عقود التلجئة ونحوها.
6- في هذه الواقعة بيانٌ لما جرى به العمل من تسبيبِ الأحكام القضائية، مما تُوجِبه الشريعة الإسلامية وأكَّدته الأنظمة القضائية المطبَّقة في المملكة العربية السعودية[7]، والأسباب الواردة في سياق هذا الحكم تعدُّ أنموذجًا للتسبيب البسيط[8].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] يطلق المثال على صورة الشيء الذي يمثل صفاته؛ “الوسيط لمجمع اللغة” 2/854.
[2] معين الحكام؛ لابن عبدالرفيع 2/608، والروض المربع 7/524، وفتاوى ورسائل 12/333.
[3] متفق عليه، واللفظ لمسلم، فقد رواه البخاري 12/55، برقم 6769، ومسلم 3/1344، برقم 1720.
[4] السنن الكبرى 3/473.
[5] صيغة التغليظ في اليمين باللفظ، أن يقول الحالف: “والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضار النافع، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور”؛ انظر: المقنع بحاشية الشيخ سليمان آل الشيخ 4/362.
[6] وقد بيَّنا توصيف الأقضية وأحكامه مفصَّلة – ومنها وجوب تصريح القاضي بالتوصيف عند الاقتضاء – في كتابنا: “توصيف الأقضية” تحت الطبع.
[7] انظر تفصيلاً للتسبيب وأحكامه في كتابنا: “تسبيب الأحكام القضائية في الشريعة الإسلامية” مطبوع.
[8] انظر التسبيب البسيط وعناصره في كتابنا آنف الذكر ص 81.